التعـليـــم – الأزمـــة والحــــــل

 

دكتور/ جورج فهمى

أستاذ الاقتصاد بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا - سابقاً

 

الأزمـــــة

يقول أفلاطون فى كتابه (الأخلاق) : "إن القيم الجمالية والإخلاقية والأبداعية تكمن فى جذور التعليم، ولئن انحدر التعليم انحدرت معه سائر القيم الإنسانية الكامنة فى احشائه".
ومن عجب! أن يتساءل الناس بعد ذلك عن المتهم الحقيقى الذى انحدر بسلوك المصريين وزلزل ثوابتهم إلى هذا الدرك.
شكراً لهذا المتهم الذى كشف النقاب عن ازدواجية مقيتة فى السياسة التعليمية، وهى تتارجح بين مجاراة العلم تارة، وبين معاداته تارة أخرى .. و لماذا اضحت هذه السياسة التعليمية فى مصر تابوهاً لا يمس، ولماذا أمست على هذا النحو - سبعة عقود - كشجرة عقيم لاتزهر ولا تثمر ولا تظل إنساناً.

مفردات الأزمة

1- تنفق الدولة على التعليم الأساسي، أكثر من خمسين مليار جنيه، يذهب الجانب الأعظم منها إلى تأليف وانتحال كتب هزيلة،ويضيع الجانب الأخر منها في بناء مؤسسات مشوهة - تتولاها هيئة الأبنية التعليمية – فتتبارى فى بناء سجون مدرسية تخلع عليها صفة المدرسة حتى يقيها من المساءلة القانونية والاجتماعية. انها تتباهى بكم وكيف ممسوخين- يفتقر كلاهما إلى الحد الأدنى من المرافق والملاعب والتصميم الجمالى الذى ينسجم مع الاستعداد النفسى للطفل فى حبوره واقباله على العملية التعليمية.

2- أما عن الكتب المدرسية، فحدث ولا حرج. أنها تطبع بالملايين وينفق عليها البلايين، ويعلم القاصى والدانى انها تستقر فى سلال القمامة لانها لا تضيف لعقول الابناء شيئاً، بل انها تؤجج كراهيتهم للعلم والمتعلمين، ويستعيض الطلاب عنها بكتب خارجية- يسيطر على إدارتها جماعات عميقة، تساهم بشكل فاعل فى انعاش فساد هيكلى مستتر- يلتحف دائما برداء من القانون واللوائح - كي يحميه ويبقيه ويدعمه. أن انتشار هذه الملازم الخارجية بين الطلاب، أدت إلى أستنزاف عقولهم وغياب ابتكاراتهم وتحصين أفكارهم ضد التغيير، حتى تمكن الجمود من المجتمع كله - فسار فى خط بيانى ثابت، تحول بعده إلى ركود تدريجى فى كل مناحى الحياة.

3- ثم نأتى إلى البند الثالث في منظومة هذا الإهدار المروع , وهى اغتيال كافة الانشطة الأدبية والفنية والرياضية بالمدارس، نظراً لتعدد الفترات الدراسية فى اليوم الواحد ونقص الإمكانات المتاحة وإزدحام الفصول وفوضى الإدارة- على جميع الأصعدة، فضلاً عن جحافل المعلمين والمعلمات الذين لا يتلق معظمهم الحد الأدنى من الأسس التربوية فى التعامل مع النشء فى مراحله الباكرة أو الشبابية، مما حدا ببعضهم – فى هذا الكرنفال - إلى التهاون فى أداء أعمالهم والتفرغ للسمر السياسي، وإلى معاداة الدولة وتاليب الطلاب على قيم المجتمع وأعرافه.
4- هذا المناخ العليل، أفرز أجيالا من المعلمين والطلاب يعانى كل منهم قهراً وإحباطاً وأختلالاً فاضحاً فى منظومة القيم الاجتماعية والمدرسية، فراح المعلم يشكو للطلاب همه ويستجديهم من أجل بضعة جنيهات، فضاعت هيبته وأهدرت كرامته ووقف الطلاب مع ذويهم فى خندق الحيارى , حتى هجرهم اليقين واستولى عليهم الشك فى جدوى العملية التعليمية برمتها.

بعد هذا العرض المخجل للسياسة التعليمية فى مصر، ألا يحق لنا أن نتجرأ على هذا الكهنوت التعليمى الفاشل، ونبحث بأنفسناعن باب للخروج، لعله يؤدى إلى هدم هذا المعبد من أساسه ويعيد هذه المليارات إلى أربابها من دافعى الضرائب، ويرتقى بالعملية التعليمية جملة وتفصيلاً .

الحـــــــل

لاشك أن الساسة والتكنوقراط المسئولين عن السياسة التعليمية فى مصر، قد تلكأوا طويلاً فى اقتحام المشكلة التعليمية، نظراً لغياب الخيال الابداعى لديهم، فآثروا – عن قصد، التقوقع داخل شرنقة اللوائح الحكومية الجامدة، مما أدى إلى تواضع فى الطموح وضباب فى الرؤية – نسعى لسبر أغوارها فى المحاور الاستراتيجية الاتية:
* ضعف الامكانات وعدم القدرة على توليد موارد.
* ندرة المساحات الفضاء – داخل المناطق السكنية - لبناء مدارس جديدة.
* فقر الإدارة وقصور المناهج .
* دور الدولة وحقوق المعلمين.

تراتب التنفيذ

أولاً: تتميز العلوم الاقتصادية والإدارية بالتمرد الدائم على الأفكار التقليدية وبالسعي الدؤوب إلى ابتكار الحلول و توليد الموارد , بالقدر الذي يسمح لها بالتمدد أفقيا ورأسيا , فيمكنها من خلق ثروة تستصلح بها بيئتها الاقتصادية المجدبة . أفلا إن كان الأمر كذلك , فلماذا لا يسن مجلس الشعب ويستصدر قانونا فوريا يسمح لكل محافظة على مستوى الدولة – بإصدار سندات مالية بضمان موازناتها السنوية ، أسوة بالمملكة المتحدة وماليزيا وغيرها. Muncipal Perpetual Bonds. أن هذا التوجه القومي المميز من شأنه ..

• أنه يتوافق مع تطلعات المصريين فى هذا النوع من الأستثمار ويحفزهم على شراء هذه السندات- (طويلة الأجل ذات العائد الثابت) - ولنا فى سندات قناة السويس أسوة فى هذا الخصوص.
• انه يتطابق مع طبيعة الاقتصاد الريعى الذى يميز الاقتصاد المصرى- فى جزء منه.
• أنه يمتص السيولة النقدية داخل الاسواق والبيوت المصرية، مما يؤدى إلى تحجيم التضخم والارتفاع بقيمة العملة الوطنية.
• أنه يعمق اللُحمه الوطنية بين المواطن ومحافظته، بعد أن اطمئن إلى استغلال هذه الأموال فى حل مشاكله الحياتية المزمنة.

ثانياً: ثم يأتي بعد هذا الإصدار – في آلية التنفيذ :

أ - تجميع هذه الأصول المالية- كاتحاد ملاك ، تحت إدارة جمعية عمومية ومجلس إدارة منتخب من حاملى هذه السندات.
ب- تذهب هذه الأموال مجتمعه لشراء مبانى آيلة للسقوط – داخل الأحياء السكنية، ثم تتعهد المحافظة بهدمها وتسليمها ارض فضاء للمستثمر المأمول (كحق انتفاع/ بالإيجار). يستخدم هذا الإيجار مستقبلا, كعائد سنوي منتظم للمحافظة - لتمويل الاستحقاقات المالية المترتبة على إصدار هذه السندات.
جـ - يتسلم المستثمر هذه الأراضى الفضاء- بعقود صارمة، يتعهد خلالها ببناء مدارس نموذجية (للتعليم العام والتعليم الفنى) كاملة المرافق والخدمات والملاعب والمعامل وسائر التجهيزات الفنية بتصميمات مميزة ومواصفات قياسية - خلال جداول زمنية معلنة وموثقة.
د‌- تقوم أحدى بيوت الخبرة المشهود لها - بحساب التكلفة المحاسبية للطالب فى هذا التعليم (الخاص / المدعم) وكذلك , حساب النفقة البديلة للمستثمر الجاد، لتحديد هامش ربح مغرى - يسمح له بجدوى المخاطرة والاستثمار فى مجال التعليم – كأمن قومى.
هـ- تقوم الدولة بتسليم إدارة المدرسة صكاً Voucher بقيمة المصاريف المدرسية للطالب- ممولة بالكامل من الموازنة المليارية المهدرة بوزارة التعليم - علما بأن ما تنفقه الدولة من متطلبات العملية التعليمية / للطالب في التعليم الأساسي يربو على ثلاثين ألف جنيه – بلا مردود يذكر , في حين أن الولايات المتحدة بمقياس القوى الشرائية الموازية PPP تنفق نحو عشرة ألاف دولار / للطالب بمردود إيجابي لا تخطئه العين.


أن هذا التوجه النوعي في إدارة العملية التعليمية - من شأنه :
• أن يدفع المتنافسين إيجابياً إلى الاجادة، كى يحظى الجميع بالدعم الحكومى المأمول وبحرية الإدارة وإستقطاب صفوة المعلمين بأجور مجزية، تعيد للتعليم دوره وللمعلم هيبته.
• إثارة قدرات المعلم على تحصيل الجديد واكتساب المهارات المعرفية والتكنولوجية, بعدما أصبح التقدير فوريا : ماديا وعينيا.
• استشعار الطالب بجودة وجدية العملية التعليمية- يؤدى إلى الإرتقاء بمستواه التعليمى والسلوكى.
• تعميق العدالة الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد وتقليل الفجوة بين المدراس الأجنبية والحكومية.
• المحافظة على دخل الأسرة من التشتت، وإعادة الهدوء والاستقرار إلى البيت المصرى- بعدما إنتفت الحاجة إلى دروس خصوصية، أو زيارات يومية إلى مراكز التعليم الخصوصية.
• كذلك , يمكن الاستفادة بميزات جانبية - من فائض الأراضي داخل الأحياء السكنية, في بناء جراجات متعددة الأدوار تدر دخلا أضافيا للمحافظة لحل مشاكل التكدس المروري داخل هذه الأحياء فتعيد إليها جمالها ورونقها.
 

ثالثاً: ثم نأتي إلى التحدي الأعظم فى كيفية تشكيل العقل المصرى وتأهيله للتعامل مع المتغيرات العالمية، فنكتشف أن جودو الأغريقى، لن يأتى أبداً مع الزمن الأفقى لعلاج مواطن الخلل المزمن فى منهجية التفكير ومناهج التعليم - وأن الأمر بات خطيراً ويتطلب جرأة فى التعامل مع الواقع وقفزة نوعية وبروستريكا عقلية تعيد البناء والتوازن للشخصية المصرية.. ويتأتى ذلك عن طريق :

• الإستعانة الفورية بالكتاب الإلكترونى E-Book الذى يستوعب أكثر من مائتى كتاب لجميع المواد، ومزود بإيضاحات دقيقة وعروض جذابة – عوضاً عن حزمة الأوراق المتخلفة التى ترهق الطفل بدنياً ونفسياً وترهق الوزارة مالياً.
• أن يتم التركيز على دراسة اللغة العربية وأدبياتها كلغة, باعتبارها لغة أم - ومقوم أساسي من مقومات الشخصية الحضارية المصرية , كما يجب الاهتمام بالتركيز على جغرافية وتاريخ مصر- تحديداً , لتنمية الولاء الوطني لدى الأبناء – بعد أن أدركه الخطر.
• أن نحذو حذو دولة الإمارات العربية الشقيقة فى جرأتها على التحول النوعى فى التعليم، وإلى تبنى المناهج الأجنبية والعلوم المستقبلية والدراسات الفلسفية والأفكار النقدية فى جميع المواد – باللغات الأجنبية. Critical Thinking
• أن لا يتم تسييس التعليم أو تديينه، وأن يحترم التعليم مدنية الدولة ودستورها. افلا أن كان الشعب المصرى متدين بالفطرة، فيجب أن يكون التعليم علمانى بالضرورة. فالعلمانية ليست سبه فى جبين الأخلاق كما يروج لها؛ بل أنها اسلوب تفكير وآلية حلول وليست ديناً سماوياً أو وضعياً- بل هى المعبر الآمن من الفكر الخرافى إلى الفكر العلمى، وهى البوابة الملكية للديمقراطية والتقدم.

رابعاً: ولا يبقى بعد ذلك إلا دور الدولة فى المتابعة اليومية على هذه القفزة الإدارية فى السياسة التعليمية- وذلك من خلال.

• حتمية اللجوء فى المرحلة الأولى من التطبيق - إلى أحدى بيوت الخبرة الأجنبية المحايدة لتقييم هذه المدارس بالمعايير الدولية، من حيث الجدارة الإقتصادية والكفاءة المهنية ، مع أهمية تقنين اللوائح العقابية - حال التقاعس والإهمال.
• تقديم الخبرة والتدريب للمعلمين والمعلمات وأعانتهم على تعلم المهارات , وكذلك التواصل مع معاهد اعداد القادة والأشراف على مناهج التربية السلوكية بالجامعات المصرية.
• تعبئة وسائل الإعلام لخدمة هذا المشروع القومى الكبير، للتخلص من ركام متخلف - ينوء بحمله الوطن والمواطن.
• التفاوض مع وزارتى المالية والتخطيط لإعادة هيكلة أجور المعلمين بنظام الساعات المعتمدة ، حتى نصل إلى حالة من الرضا الوظيفى للمعلم، فيستريح لحاضره ويطمئن على مستقبله، فيرتفع التعليم إلى مستوى الثقافة المستنيرة ويرتفع المعلم ومعه الطالب والمجتمع إلى مصاف الدول المتقدمة.
 

 

مقالات للكاتب

1. إدارة الأزمات والفكر التقليدي

2. رؤية سياسية

3. في المسألة التعليمية

4. حوار في الشئون الاقتصادية والعدالة الاجتماعية (1) .. حوار في الشئون الاقتصادية والعدالة الاجتماعية (2)

5. محددات اجتماعية للتنمية

6. البعد الإيجابي للعولمة

7. محددات نقدية للتنمية المصرية

8. اليورو ومحددات التنمية الشاملة

9. استثمار الكساد العالمي في توجيه السياسة المصرية

10. الأفق التاريخي والديمقراطي للفكر العلماني

11. تصور مستقبلي لاتحاد شرق أوسطي

12. برنامج انتخابي ينتظر مرشح رئاسي

13. رؤية نقدية

 

عن الكاتب

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Designed & puplished by:   Mediterranean Technology - Emad Samir

Copyright © 2006-2017 www.drgeorgefahmy.com. All rights reserved